النفس الإنسانية أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي , لذلك فهي بحاجة إلى تربية وترويض , وفي هذا المقال سوف أتناول موضع تزكية النفس الإنسانية , فان أصبت فمن الله صاحب الفضل والمنة , وان أخطأت فمن نفسي المقصرة. كان المصطفى صلّى الله عليه وسّلم يتضرع إلي الله ويسأله أن يزكي نفسه ويؤتيها الّتقوى، فيقول (اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكّها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها). فصلاح النفس مرهون بتزكيتها وهوالذي يوصلها إلي الّتقوى ويحقق لها مبتغاها ويذلك يترفع القاصد عن الشّهوات، ويسموعلى الّنزوات، ويأخذ نفسه بالعزيمة، ويجاهد ذاته في الله حق جهاده،فيكون بفضل الله وعونه من ذوي الّنفوس الّزكيه، ومن أهم الأسس التي تقوم عليها التّزكيه هي :
أولا: صحبه الصالحين : فهذه الصحبه تجلب لذويها خيرات جليلة، وتعصمهم من شرور كثيره. وتهيئ لهم المناخ والبيئة التي تنبت فيها الفضائل وتزدهر في ظلها الّشمائل. قال يحيى بن معاذ الرازي : دواء القلب خمسه أشياء
1. قراءه القران بالتفكر.
2. وخلاء البطن.
3. وقيام الليل.
4. والتّضرع عند السّحر.
5. ومجالسه الصالحين.
وقال يوسف بن الحسين : سمعت ذا النّون المصري يقول: بصحبهِ الصّاحين تطيب الحياة، والخير مجموع في القرين الصالح، إن نسيت ذكّرك، وإن ذكرت أعانك. وعن سفيان بن عينية قال : عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة. وقال محمد بن يونس : ما رأيت للقلب أنفع من ذكر الصالحين. وعن أبي أمامة أّن لقمان قال لأبنه : يا بني عليك بمجالسة العلماء واسمع كلام الحكماء فإّن الله يُحيي القلب الميت بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر كما ورد الطبراني الكبير. وعن ابن عباس : قيل يا رسول الله : أيّ جلسائنا خير؟ قال : من ذكّركم الله َرؤيتَه، وفي عملكم منطقه، وذكّركم بالآخرة عمله. فبمثل هذه المصاحبة تزكوا النّفوس وترقى العقول، وترّق القلوب وتسموالأرواح، وتعلوالهمم، ويطيب العمل، ويحلوالذكر، ويفيض الحب في الله .
ثانيا : مخافة الله تعالى : والخوف من الله ّ رأس الحكمة ومصدر كل خيرِ، فالمؤمن الّتقي دائم الأحزان تملأ المخافة قلبه، ويُكسبُه الحزن الذي يرسم على محياه ِسمَت الصالحين، يشع الرّجاء من عينيه،وتسمع الخشيةَ من الله تعالى في نيران صوته. والخوف من الله تعالى ومخالفة الهوى يفتحان أبواب النّعيم وأمّا من خاف مقام ربه ونهى النّفس عن الهوى فإن الجَّنة هي المأوى ولذا كان الصّفوة والعارفون في خشية دائمة من الله ، ويبدوعليهم الخوف والوجل. عن أبي إدريس الخولاني قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول كان النَّاس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يد ركني. وعن عبد الرحمن بن حفص القرشيّ وقال : كان عليّ بن الحسين زين العابدين إذا توضأ يصفرّ، فيقول له أهله : ما هذا الذي يعتاد ك عند الوضوء؟ فيقول : تدرون بين يدي من أريد أن أقوم، وعن عبد الله بن أبي سليم قال : كان عليّ بن الحسين إذا قام للصّلاة أخذته رعدة، فقيل له مالك ؟ فقال : أتدرون بين يدي من أقوم ومن أناجي. وقال إبراهيم بن عيسى اليشكري : ما رأيت أطول جزعا من الحسين لبصري وما رأيته ألا وحسبته حديث عهد بمصيبةٍ. وقال حكيم بن جعفر : قال لي مستمع : لورأيت الحسن لقلت : قد بُثّ عليه حزن الخلائق، من طول تلك الدّمعة وكثرة ذلك التسبيح، وقال محمد بن سعد : قال يزيد بن حوشب : ما رأيت أخوف من الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز : كأنّ النّار لم تخلق إلاّ لهما. وعن عطاء بن دينار، عن سعيد بن حبير قال : الخشية أن تخشى الله حتى تحول خشيته بينك وبين معصيتك فتلك الخشية . وقال مولى عمر بن عتبة : سمعنا زئير الأسد فهربنا، وعمر بن عتبة قائم يصلي ولم ينصرف. فقلنا له : أما خفت الأسد ؟ فقال : إني لأستحي من الله أن أخاف شيئا سواه. وعن مالك بن دينار ، عن عامر بن عبد قيس : قال : من خاف الله أخاف الله منه كلّ شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كلّ شيء. وسأل رجل الجنيد : كيف الطريق إلى الله: فقال توبة تُحِل الإصرار، وخوف يزيل الغرة، ورجاء مزعج إلى طريق الخيرات، ومراقبة لله في خواطر القلوب. قال يحيى بن سعيد : ما جلست إلى رجل أخوف لله من سليمان بن طرخان التميمي. قال أبوعمران موسى بن عيسى الجصاص : قال أبوسليمان الداراني : تعرّض لرقة القلب بمجالسة أهل الخوف، واستجلب نور القلب بدوام الحزن. وقال أحمد بن أبي الحواري : سمعت أبا سليمان عبد الرحمن بن أحمد العبسي – الداراني – يقول : وأصل كلّ خير في الدنيا والأخرة الخوف من الله، وكل مااشغلك عن الله ّ من أهل أومال وولد فهوعليك مشؤوم. ويقول : وكلما ارتفعت منزله القلب كانت العقوبة إليه أسرع. ويقول : من حسن ظنه بالله ّ، ثم لا يخاف الله فهومخدوع.
فالخشية من الله تفتح للخائفين أبواب الجنان، وتغمرهم بالغفران والرّضوان قال الله عز وجل :جزاؤهم عند ربهم جنّات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، رضي الله عنهم ورضوا عنه، ذلك لم خشي ربه.
ثالثا : معرفة النّفس ومراتبها ومحاسبتها وتأديبها : إن ّمعرفة النّفس فرضُ عين لكل سالك في طريق الآخرة لأنّه من عرف نفسه عرف ربّه. ونعني بالنّفس هنا اللطيفة الرّبانية التي سمّيت فيما بعد بالروح، حيث كانت قبل تعلقها بالجسد في جوار الحق ّ ولما وجد الجسد تعلّقت به. ومالت إلى طبيعة الشّهوانية ,ووصفها الحقّ تعالى بأنّها أمارة بالسوء مالم تتزكى قال تعالى :وما أبّرئ نفسي إنّ النّفس لأمارة بالسـوء ألا ما رحـم ربي إن ربي غـفور رحيم(53 يوسف). فحالها بدون تزكية حال ظلمة وهبوط.وإذا تزكّت فهي نفس نورانية تحققت من مراتبها السّبعة التي سنوردها فيما بعد. وقد عنيت طريقتنا الخلوتية الجامعة الرّحمانية بهذا الجانب وتميّزت به, فهي تراعي في السّالك التخلص من آفات النّفس المذمومة وتحويلها إلى صفات وأخلاق حميدة مشكورة. فالسّالك يسعى لتزكيتها على يد مرشد وارثٍ متصلٍ برسول ِالله .وللعلم فانّ النّفس تمرض كما يمرض الجسد فكما يذهب الإنسان لعلاج جسدة وأخذ الدواء اللازم له, كذلك لابدّ للنّفس من طبيب خبير بأمراضها وهوالشيخ الذي يصف لها الدواء الشافي وهوالذّكر ولكل مرض من أمراض النّفس نوع من أنواع الذّكر الخاص والشّافي لهذا المرض ولا يستطيع أيّ إنسان وصف هذا العلاج فلا بدّ من الرجوع لشيخ عارف بالله مطلع على أمراض النّفس وخبير في وصف العلاج لها. مراتب النفّس السبع أولاً : النّفس الأمارة : وهي النفس الخالية من التّزكية , المجردة من القيم الرّوحية , لأنها تميل إلى رغبات الجسد وملذاته وشهواته , وتميل بصاحبها إلى الأسفل :
ثم رددناه أسفل سافلين. ومن هنا تبدأ مرحلة التّزكية إلّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون. والطبائع الذّميمة تسكن في هذه النّفس , كالغل والحقد والنفاق والشّح والحسد…….الخ وما أبّرئ نفسي انّ النّفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي(53 يوسف).
ثانياً : النّفس اللوّامة : والدّليل عليها قولة تعالى لا أُقسم بيوم القيامة ولا أُقسم بالنّفس اللوّامة(1-2 القيامة). وهي النّفس التي بدأت تدرك حقيقة المجاهدة فبدأت بها , ولقرب عهدها بالنّفس الأمارة تطيع الحق مرة وتعصية أخرى ثم تندم فإذا تنوّرت فعلت الخير ولامت حالها على عدم الاستدامة علية , وإذا فعلت الشّر لامت صاحبها على فعلة عند انتباهها. ثالثاً :النّفس المطمئنة : وهي النّفس التي ارتقى حالها وتنوّرت بنور الأيمان الذي وقر في القلب بفعل الخير والنّدم على فعل الشّر , وبدأت تتخلّص من الصّفات الذّميمة , واطمأنت بحال الذّكر والقرب من الله الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله الا بذكر الله تطمئن القلوب (201 الرعد). وهي المرتبة الأولى من مراتب النّفس الكاملة ويعد صاحبها من أهل الطريق لانّه ابصر الحقّ ودرج علية , وتعلق بربه وتفانى في حبه قال تعالى يا أيّتها النّفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية(27-28 الفجر).
رابعاً : النّفس الملهمة : وهي ثمرة العمل في النّفس الثّانية والثّالثة حيث صارت بفعل الطّاعات ملهمة (فألهمها فجورها وتقواها) وقوله تعالى واتّقوا الله ويعلمكم الله(282البقرة). فالذي التزم الشريعة وترجمها بالطّريقة أي التطبيق , فلا بد وأن يُثمر ذلك الحقيقة ويتميز أصحاب هذه المرتبة بالصّـبر والتّحمل والشّكـر والتّواضع والقنـاعة والكـرم. قال الله تعـالى : فوجـدا عبدا من عبـادنا ءاتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدنا علماً(65 الكهف). ومثال ذلك قصة سيدنا عمر بن الخطاب مع سارية , حيث قال بعدها (وقع في خلدي) أي ألهمني ربي.
خامسا : النّفس الرّاضية : وهي ثمرة المراتب الثّلاثة السّابقة. حيث رضية عن الله في مشيئة وأقداره , وإذا سُئلت ماذا تشتهي قالت (ما يقضي الله) قال تعالى رضي الله عنهم ورضوا عنه (8 البينه). والغالب على هذه النّفس التّسليم المطلق فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ويسلموا تسليما (65 النساء).
سادسا: النّفس المرضية : وهي التي رضي الله عنها بسبب رضاهاوهي أولى مراتب معرفة الله حقّ معرفته. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن ربه (إذا تقرّب إلى شبرا تقرّبت إليه ذراعا، وإذا تقرب إلى ذراعا تقربت إليه باعا، وإذا أتاني يمشي آتيته هرولة) والغالب على هذه الّنفس صفات الإخلاص والذّكر والكرامة والطّهارة من شوائب الرياسة والسمعة والرياء. قال الله في آيه جمعت النّفس المطمئنة والرّاضية والمرضية يا أيتها النّفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية.
سابعا: النّفس الكاملة : ولا نعني به الكمال المطلق الذي هولله وحده، بل الكمال الجزئي البشري حيث تصير الكمالات طبعاً أصيلاً في هذه النّفس وتترقى في هذا المقام، وغالبا ما يكون صاحبها مرشداً للنّاس ودليلا إلى الله تعالى.ولا ترقى هذه النفس إلا على يدُ مرّبٍ مرشد كامل ونقصد الكمال الجزئي البشري يَعِرف مقامات الطريق وأفات النفس ومداخل الشّيطان وينأى بمريده عن دروب الشر والفساد , إلى دروب الخير والإحسان. ما ورد عن بعض السلف في محاسبة النّفس وتأديبها رضوان الله عليهم فعن عمر بن مهاجر قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلبابي ثم هزني , ثم قل يا عمر : ما تصنع ؟ وعن موسى بن عبيده عن محمد بن كعب قال : إذا أراد الله بعبد خيراً جعل فيه ثلاث خصالٍ , فقها في الدين , وزُهداً في الدنيا وبصرا بعيوبه , وقال أبوعمر الضرير : سمعت رياحاً القسي يقول: قال لي عتبة الغلام : يا رياح إن كنت كلما دعتني نفسي للكلام تكلمت فبئس الناظر لها أنا. وقال أبوسليمان الداراني : لا فضيلة كالجهاد , ولا جهاد كمجاهدة النّفس , وقال ذا النون المصري لعابد مَغربي : عظني , فقال : الزاهد في الدنيا , قوته ما وجد، ولباسه ما ستر. القّران حديثه، والله أنيسه والذّكر رفيقه، والصَّمتُ جنّته، والخوف سجينه، والصِّديقون إخوانه، والحكمة كلامة، والعقل دليله، والبكاء دأبه والله عز وجل عدته. قلت بما تبين الزيادة من النقصان ؟ قال عند المحاسبة للنِّفوس. وعن الحارث بن الصّواف قال : قال محمد بن المنكدر : كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامة. وعن عبد الصَّمد بن يزيد قال : سمعت الفضيل يقول : أدركت قوما يستحيون من الله في سواد الليل من طول الهجعة، إنما هوعلى الجنب، فإذا تحرك قال(لنفسه) ليس هذا لك، قومي خذي خطك من الآخرة. وكانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت هجعة خفيفة حتى يُسفِر الفجر، فتقول إذا وثبت من مرقدها وهي فزعة : يا نفس كم تنامين ؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور ومر حسان بن أبي سنان بغرفة فقال : متى بنيت هذه ؟ ثم أقبل على نفسه فقال : تسألين عما لا يعنيك ؟ لأعاقبنك بصوم سنةٍ، فصامها. وهكذا عَرَفَ الصَّالحون نفوسهم فأخذوا يحاسبونها ويسألونها ويهذبونها ويؤدبونها، وكثيراً ما كانوا يلومونها ويعاقبونها. حتى الذين بلغوا مقام الولاية لم يركنوا إلى نفوسهم ولم يغفلوا عنها بل كانت رقابتهم عليها دائمة كي لا تشغلهم بأمر زائل , أوتغريهم بالرغبة في إشاعة أمرهم ومعرفة الخلق لأحوالهم. فعن محمد بن علي بن حبيش قال : سمعت أبا العباس بن عطاء قال : علامات الولي أربعة : • صيانة سره. • فيما بينه وبين الله. • وحفظ جوارحة فيما بينة وبين أمر الله. • واحتمال الأذى فيما بينه وبين خلق الله ومداراته للخلق على تفاوت عقولهم. وقد استمر العارفون الأتقياء الأصفياء على هذا النهج حتى استقام لهم الأمر , وأصبح سلطانهم على نفوسهم كاملا , فأمنوا مكرها وضمنوا خيرها , فبلغوا بها المنزلة التي وعد بها رب الجلال والإكرام عبادة المخبتين. تم بحمد الله