بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
فمن عرف الغاية من خلقه لا يعيقه عائق عن عبادته وأذكاره وأوراده, ولا يجمع على نفسه مصيبتين, مصيبة العائق, ومصيبة ترك العبادة.
حُكيَ أن الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين, دعا عروة بن الزبير رضي الله عنه لزيارته في دمشق مقر الخلافة, فلبَّى عروة دعوته, وصحب معه أكبر أولاده, ولمَّا قدم على الخليفة, رحَّب بمقدمه أعظم الترحيب وفرح به أتم الفرح, وبالغ في حفاوته أكمل المبالغة, فنزل عروة قصر الضيافة معززاً ومكرماً, محبباً ومحترماً.
وإذا بابنه دخل اصطبل الخيل ليتمتع بأصيل الجياد ويتفرَّج عليها, فأُفلتت دابة نحوه, فرفسته رفسةً أودت بحياته.
فُجع الوالد الرؤوم, بولده الأثير, الذي هو باكورة الأولاد, فما نفض يديه من تراب قبره, وما جفَّت دمعة الفراق, حتى فجأه مرض الأكلة, بإحدى رجليه فتورمت ساقه, وجعل الورم يشتد ويمتد, فاستدعى الخليفة لضيفه الكريم الأطباء الأخصائيين من كل قطر, ورغَّبهم بإكرام عظيم, إن هم نجحوا في معالجته.
ولكن الأطباء أجمعوا على وجوب بتر الساق, وإلا سرى المرض لجميع البدن فقتله.
فحمل عروة على سرير الجراحة, وعرضوا عليه مخدراً كي لا يشعر بالألم, فأبى أشد الإباء.
وقال: ما أحب أن أسلب عضواً من أعضائي دون أن أشعر به, فينقص أجري.
ولما باشروا بقطع الساق وإذا برجال التفوا حوله, فقال: من هؤلاء؟
فقيل له: جاؤوا ليمسكوك, فلربما اشتد عليك الألم, فقال رضي الله عنه: ردوهم لا حاجة لي بهم, فتقدم الطبيب, ووضع منشاره على ساقه, وطفق ينشر, وعروة يكبر ويهلل, حتى وقع ساق عروة بجانبه.
ثم أُغلي الزيت, وغمست ساقه فيه, لوقف النزف, فعند ذلك أغمي عليه إغماءةً طويلة, حالت دونه ودون قراءة ورده.
ولما صحا دعا بساقه المبتورة, فأخذ يقلِّبها ويقول: أما والذي حملني عليك يا قدمي في عتمات الليل إلى المساجد, إنَّه ليعْلمُ أنَّني ما مشْيتُ بك مشية يبغضها الله, ولا خطوات تؤدي إلى سخط الله.
فلما عاد إلى المدينة المنورة, وأُدخِلَ على أهله, بادرهم قائلاً: لا يهولنَّكم ما ترون, فقد وهبني الله أربعة من الأولاد, فأخذ واحداً, وأبقى ثلاثة, وأعطاني أربعة من الأطراف, فأخذ طرفاً وأبقى ثلاثة, فله الحمد على ما أبقى, وله الحمد على ما أخذ.
ثم شرع يناجي ربه: وايمك لئن كنت أخذت لقد أبقيت, ولئن كنت ابتليت لقد عافيت.
ثم عاد إلى ورده وعبادته فلم يعقه عائق عنها.
الصدفة العجيبة:
قبل أن يغادر عروة دمشق, نزل بدار الخلافة رجل مكفوف البصر, فسأله الخليفة عن السبب؟ فقال: يا أمير المؤمنين لم يكن في قبيلتي رجل أوفر مالاً ولا أكثر أولاداً مني, فنزلت مع مالي وعيالي في بطن وادٍ, ففاجأنا سيل شديد لم نرَ مثله, فذهب بما كان لي من مال وأهل وولد, فلم يترك السيل سوى بعير, وولدٍ لي صغير, وكان البعير صعباً, فأفلت مني, فتركت ولدي على الأرض, ولحقت بالبعير, وإذا بصيحة خرجت من الطفل لم أسمع قط بمثلها.
فالتفت فإذا برأسه في فم الذئب, فأسرعت إليه, كان قد أجهز عليه, فتمدَّد الطفل أمامي مفصول الرأس, فلحقت بالعير, فلما دنوت منه, رماني برجله رميةً أذهبت بصري.
وهكذا: يا أمير المؤمنين وجدت نفسي في ليلة واحدة من غير أهل, ولا مال, ولا ولد, ولا بصر.
فقال الخليفة: خذوا به إلى ضيفنا عروة فليقص عليه قصته. اهـ.
أيها الإخوة الكرام: نسأل الله تعالى العفو والعافية, وأن لا يحمِّلنا ما لا طاقة لنا به, وأرجوه تعالى أن لا يشغلنا بشيء عن عبادته لا من عطاء ولا من منع, ولا من رفع ولا من خفض .
ونسأل الله تعالى أن يذيقنا حلاوة المعرفة ولذة المناجاة والقرب منه تبارك وتعالى. اللهم اجعلنا من الشاكرين عند الرخاء, ومن الصابرين عند البلاء, ومن الراضين بمرِّ القضاء. آمين. آمين. آمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم, سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. نقله أخوكم أبو الحسن
يرجوكم دعوة صالحة